في عصرنا الرقمي المتسارع، أصبحت الأدلة الرقمية أدَاة أساسية في كشف الجرائم، خاصة تلك المتعلقة بالجرائم الجنسية التي غالباً ما تتم في الظلال الافتراضية، وهذه الأدلة، التي تشمل الرسائل النصية، الفيديوهات، السجلات الإلكترونية، وبيانات المواقع، تحولت إلى شاهد صامت يسهم في إثبات الوقائع وتحقيق العدالة، ومع ذلك، تثير استخدامها تحديات قانونية وأخلاقية، حيث يتطلب الأمر التوفيق بين كفاءة التحقيق وحماية الحق في الخصوصية.
تعريف الأدلة الرقمية وأنواعها
تُعرف الأدلة الرقمية بأنها جميع البيانات الإلكترونية المخزنة أو المنتقلة عبر الأجهزة الرقمية، والتي تحمل قيمة إثباتية في الدعاوى الجنائية، وتتميز بطبيعتها غير الملموسة، مما يجعلها عرضة للتغيير أو الإخفاء بسهولة، وتتنوع أنواعها بين البيانات النشطة، مثل الرسائل والمنشورات على وسائل التواصل، والبيانات السلبية، كالبيانات المرفقة بسجلات التصفح أو الموقع الجغرافي، والسجلات الناتجة عن الأجهزة، كمحاضر المكالمات والصور المستخرجة منها.
دور الأدلة الرقمية في الجرائم الجنسية:
تلعب الأدلة الرقمية دوراً محورياً في إثبات الوقائع المرتبطة بالجرائم الجنسية، إذ توفر أدلة مباشرة على الفعل الإجرامي أو نية الجاني، فمثلاً، في حالات التحرش أو الابتزاز الإلكتروني، تساعد رسائل التواصل، والفيديوهات، أو سجلات الموقع في تحديد الزمن والمكان، بالإضافة إلى إثبات التهديد أو الإيذاء، وتساهم الحلول التقنية، مثل أدوات الذكاء الاصطناعي، أيضاً في تحليل كميات هائلة من البيانات للكشف عن الأنماط ذات الصلة، مثل شبكات إنتاج المواد الإباحية غير المشروعة، مما يسرع عملية التحقيقات ويقلل من الاعتماد على الشهادات الشفهية القابلة للطعن.
مثال عملي: فيديو تحرش مزيف يُدَمِّر حياة شخص
تخيل سيناريو وقع في إحدى المدن المصرية: شاب يُدعى "ص"، موظف حكومي متزوج وله طفلان، يتلقى عبر واتساب فيديو يظهره وهو يرتكب فعلاً جنسياً فاضحاً مع امرأة غريبة، ويُنشر الفيديو على مجموعات فيسبوك، مما يؤدي إلى طرده من عمله، وتدمير حياته الزوجية، ومحاولة انتحاره، لكن، الحقيقة تتمثل في أن الفيديو مزيف تماماً، باستخدام تقنية الـDeepfake، حيث تم استبدال وجه "ص" بوجه آخر في فيديو إباحي أصلي.
كيف كشفت الأدلة الرقمية التزييف؟
١ـ شكوى زوجة "ص" مع ضبط هاتفه بإذن قضائي
٢ـ تحليلات الذكاء الاصطناعي، كشفت تناقضات في حركة الشفاه والإضاءة، مما يدل على التزييف.
٣ـ تتبع بيانات الـIP أدى إلى هاتف زميل عمل سابق، الذي اعترف بصنع الفيديو للانتقام، مما أدى إلى إصدار حكم بالسجن، وإعادة سمعة "ص"، وتعويض مادي.
ويوضح هذا المثال كيف يمكن للأدلة الرقمية أن تتحول من "سلاح تدمير" إلى "درع عدالة"، مع ضرورة التصدي لظاهرة الـDeepfake التي تهدد المصداقية.
الإطار القانوني المصري للتعامل مع الأدلة الرقمية:
نظم قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الإجراءات المتعلقة بجمع وتقييم الأدلة الرقمية، بحيث يُشترط الحصول على إذن قضائي للتفتيش على البيانات الشخصية، كالهاتف أو الخوادم، مع الالتزام بمعايير تضمن سلامة الأدلة، كاستخدام أدوات تقنية تمنع التعديل أثناء الجمع.
وفيما يخص الجرائم الجنسية، يُعاقب قانون العقوبات على الأفعال مثل الابتزاز، والنشر الخادش للحياء، وتُعتبر الأدلة الرقمية مقبولة إذا جمعت وفق الإجراءات الجنائية، مع حماية الدستور لخصوصية الاتصالات.
التحديات والحلول المقترحة:
رغم فوائد الأدلة الرقمية، فإن هشاشتها من ناحية الحذف أو التشفير، وظهور تقنيات التزييف، ينعكس سلباً على موثوقيتها، خاصة في قضايا حساسة، ولمواجهة ذلك، يقترح:
1- تدريب النيابة والقضاة على أدوات كشف الـDeepfake والتزييف الرقمي.
2- وضع بروتوكولات وطنية موحدة للتحقيق في الأدلة الرقمية، تتضمن شهادات رقمية موثوقة.
3- تعزيز التعاون الدولي لمتابعة الأدلة العابرة للحدود.
4- تعديل التشريعات بشكل يصنف التزييف باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي جريمة عقوبتها تصل إلى 7 سنوات سجناً أو أكثر، لضمان الحيلولة دون إساءة الاستخدام.
الخاتمة: نحو عدالة رقمية متوازنة
تُعَد الأدلة الرقمية من أدوات مكافحة الجرائم الجنسية ذات الفعالية، خاصة مع تقدم التقنية وتطور أساليب التزييف، إلا أنها تتطلب في الوقت ذاته إدارة دقيقة توازن بين تحقيق العدالة وحماية الحقوق الأساسية، وفي مصر، تتطلب التطورات التشريعية المستمرة تعزيز قدرة القضاء على التعامل مع الأدلة الرقمية بشكل يتفق مع المبادئ الدستورية والموثوقية التكنولوجية، لبناء مجتمع أكثر أماناً واستقراراً في عصر الرقمية.