الحزن والوفاء في رواية "أداجيو" لإبراهيم عبد المجيد
لا تسير الحياة على وتيرة واحدة، أو في خط مستقيم دائما، دون حدوث انعطاف أو اعوجاج، أو التعرض لضرورة من الضروريات التي تغير المسار إجباريا؛ وبعدها قد نتمكن من العودة إلى الطريق نفسه، وقد نغير الاتجاه ويظهر طريق مستقيم آخر، أو ربما يأخذنا الطريق إلى اتجاه مغاير، ولا نقدر على العودة إلى حيث كنا، وأبرز ما يغير من طريقنا، ونفسيتنا، ومعنوياتنا، الحزن، والذي قد يتمكن من بعضنا؛ فيحيله إلى جسد بلا روح، أو روح تقاوم حتى تعيش؛ انطلاقا من أنها لا بد أن تكمل المسيرة المقدرة لها والمكتوبة عليها قبل أن تأتي إلى الدنيا، لكنها في الوقت ذاته تكون فاقدة للذة الحياة، ولا يعين على مصائب الدنيا إلا من يمتلك صفة الوفاء؛ فقد يكون قريبا عزيزا أو صديقا مخلصا أو زوجًا وفيًّا كل الوفاء، وبكل درجاته وأنواعه، كما في هذه الرواية.
وأول ما يقابلنا في هذه الرواية المشحونة بالطاقات الكبيرة المتنوعة في آن واحد، هو اسمها "أداجيوا"، أو أداجيو إن صول مينور أو السلم الصغير، وهي تلك المقطوعة الموسيقية للكمان والآلات الموسيقية والأرغن، وهي مستوحاة من المؤلف الموسيقي الإيطالي تومازو ألبينوني، وقيل إنها من تأليف غيره، ونسبت إليه، وعامةadagio هي مقطوعة موسيقية تعزف ببطء، ذات ألحان متهادية بطيئة تتناسب والجو العام للوداع والفقد، وكأن الآلات تشارك وجدانيا وصوتيا هذه اللحظات الصعبة، تجمع بين الجلال والجمال؛ معبرة عن الحزن في أسمى معانيه.
تدور أحداث رواية "أداجيو"، عبر عشرين مقطعا أو فصلا صغيرا، يتراوح المقطع بين بضع صفحات وبضع عشرة صفحة، حول "ريم" ملاك من السماء، عازفة البيانو العالمية، والتي أصيبت بورم سرطاني خبيث؛ جليو بلاستوما glio plastoma، في المرحلة الخامسة، ولم يكن هناك أمل في علاجها، خاصة أن زوجها رجل الأعمال "سامر الدريني" الذي عشقها عشقا ملك عليه فؤاده؛ فلا يرى من نساء الدنيا إلا ريم فقط وابنتهما الشابة "نور"، قد عرضها على كثير من الأطباء، في العديد من الدول، دون جدوى، ولم يكن أمامه إلا أن ينتظر أمر الله، بعد أن أوصدت جميع الأبواب، ففكر في أن يوهم من حوله بأنه مسافر إلى أوروبا لاستكمال علاجها، وفي الوقت نفسه ينقلها بسيارة إسعاف إلى فيلته في العجمي؛ حتى لا يزعجها أحد، وتحيا في هدوء تام، بعيدا عن ضوضاء الحياة والناس، على أن يزورها الطبيب كل أسبوع لمتابعة حالتها التي لا أمل فيها، وقد ضرب "الزوج سامر" أروع الأمثلة في الوفاء لزوجته، فكان نعم السند، ونعم الزوج؛ فلم يتخل عنها في أي لحظة، زوجا وخادما وممرضا، كما أنه لم يلتفت إلى سواه، وقد ألح المؤلف على إثبات ذلك في مواضع كثيرة ومتكررة.
وحين وصلت "نور"، ووجدت أمها مسجاة على السرير، صرخت منادية عليها: "ماما"، واحتضنتها وقبلتها، وهي تبكي، ولا تصدق ما تراه عيناها، حالة من الذهول، وكأن الأم كانت في انتظار وصول ابنتها لتسلم روحها راضية مطمئنة بأنها قد ودعت زوجها وابنتها، وماتت بصحبتهما، وحين دار حوارها مع أبيها، عن سبب اختياره لهذه العزلة بعيدا عن الناس، قال لها: "وجودك لم يكن سيمنع شيئا يا نور. أردت أن أكون معها وحدنا"، "آن الآوان أن ترتاحي يا نور. لن أتحمل أكثر مما أنا فيه. لا اعتراض على قضاء الله يا ابنتي. ماما أمامك لكن روحها في السماء الآن. قبلي ماما القبلة الأخيرة واتركيني. صغيرة أنت على الجلوس مع الموتى يا حبيبتي".
وبعد مرور هذا الوقت العصيب، على سامر وابنته، وكان قد كلف مدير أعماله، ببيع ممتلكاته، من مصنع ومحلات، الذي حضر في الصباح، لحضور العزاء والجنازة، وأخبره بأنها نفذ ما طلبه منه، ووضع الأموال في حسابه، التي ستؤول من بعده إلى ابنته "نور"، وبعد حضور طبيب الصحة والسيدة التي تتولى الغسل ومعها مساعدتها، ظهرت سيارة ميكروباص بها بعض الأفراد يرتدون بدلا كاملة سوداء وكرافتات سوداء وتحتها قمصان بيضاء، عرف سامر أنهم أعضاء الفرقة الموسيقية للأوبرا، وهذا ما ذكره به مدير أعماله قائلا: "لم أنس أنك قلت لي يوما لو رحلت ريم عنا سأودعها بالموسيقى"، وهو ما حدث؛ حيث قاموا بعزف "أداجيوا" ألبينوني، مع لحظات دخول النعش الخشبي وخروجه إلى عربة نقل الموتى لحملها إلى مثواها الأخير، في مقابر البساتين بالقاهرة.
تبدو الرواية حزينة كئيبة، لكنها واقعية جدا، في جميع تفاصيلها وأحداثها، فيما عدا وجود فرقة موسيقية تعزف في الجنازة؛ ولكن هذا مرتبط بأن "ريم" عازفة بيانو، كما ذكرنا، وهو ما لا نجده في العادات المصرية، وربما وجدناه عند غير المصريين، من عزف وغناء وطبل وزمر ورقص بالنعش، وصورة من الصور التي توحي بالبهجة، على خلاف أن لحظات الموت الحزينة تتطلب البكاء والصمت والهدوء والعظة والعبرة.
وقد استخدم إبراهيم عبد المجيد في روايته الموازيات الرمزية التي تساعد على قراءة الأحداث وتوقعها، كأنه يمهد لما سيقع في المستقبل القريب؛ فالنهايات تعرف من البدايات، ومن ذلك ما ذكره في مفتتح الرواية من وجود رائحة مياه عفنة لم تنقطع في الطريق إلى فيلا العجمي، تظهر بين الحين والآخر، وتزداد كلما تقدموا في مسيرهم، وفي حوار بين السائق والمسعف، وهما يسيران، ومعهم "ريم في سيارة الإسعاف، بين الفلل التي بعضها جميل، وبعضها الآخر مهمل: "هوه هوه هوه. يمكن أن تهدم البيوت. ربنا يكون في عون أصحاب الفلل هنا والعمارات طبعا"، فهذه الرائحة العفنة، والفلل المهملة المهجورة، والطرق الصعبة غير المعبدة، والجدران التي تنشع بسبب المياه المنتشرة في المكان، فضلا عن البرق والرعد والعواصف الممطرة، وكثرة استعمال كلمة "سرطان" ودلالاتها؛ السائق الذي ماتت زوجته به، والطاهية التي مات زوجها به أيضا، بالإضافة إلى جثة الغريق الذي قذف به البحر خارجه، ونقلها بسياة إسعاف، وهي راقدة مسجاة، في فيلا بلا حركة ولا أصوات، وزيادة الشقوق في الجدران، الفراشة التي كانت تظهر وتختفي في المساء، الفيلا نفسها بما تحويه من ذكريات، تطرأ على ذهن "سامر"؛ هربا من الحاضر المؤلم، صوت عبد الحليم حافظ: " مشيت مشيت على الأشواك/ وجيت لأحبابك/ لا عرفوا إيه وداك/ ولا عرفوا إيه جابك"، كلها - وغيرها كثير- علامات ونذر بأحداث مؤسفة ستقع، يشارك فيها كل شيء يحيط بها، وهو ما يظهر بوضوح في قول "عثمان"، وهو يقود السيارة في آخر سطر في الرواية: "حتى الجماد يا ربي لم تعد به رغبة في البقاء، بعد أن فارقته صاحبته".
والمتأمل يجد أن شخصية إبراهيم عبد المجيد تداخلت واتحدت مع شخصية سامر، في كثير من المواضع، حتى إن القارئ الحصيف لينسى سامر، ويستحضر شخصية المؤلف، أو لا يفرق بينهما، خاصة أن أسلوبه أسلوب تقريري، لا يبنى على استخدام التعبيرات المجازية أو المحسنات البديعية والزخرفة اللفظية؛ فالواقع الذي قدمه الراوي العليم للقارئ عبَّر عنه بالأساليب الحقيقية، وهي تتناسب تماما وأجواء الرواية، ونلمح عنده ورود التناص مرة واحدة على هيئة اقتباس: "قل لمن يحمل همًّا، إن الهمَّ لا يدوم، مثلما يفنى السرور، هكذا تفنى الهموم". وهنا يحضرني قول لبيد:
وَما المالُ وَالأَهلونَ إِلّا وَديعَةٌ وَلا بُدَّ يَوماً أَن تُرَدَّ الوَدائِعُ