بقلم: عبدالحفيظ موسى
للفساد تكلفة وأولها تكلفة الفرصة الضائعة والسمعة.. وللفرصة الضائعة تكلفة مالية كبيرة.
وفى الآونة الأخيرة استرد الحديث عن تأثير الفساد فى التنمية الاقتصادية عافيته من جديد.. ولم يعد يكفى أن نشترى الهدوء على كل الجنبات ًوالجبهات بجهود المكافحة بمفردها رغم أنها متقدمة اذا ما قورنت بمثيلاتها ما قبل 2014.
وإنما برزت أهمية فهم حجم وتأثير الفساد فى التنمية الاقتصادية ومعالجته فى إطار «فكر إدارة المخاطر»؛ لأن مثل هذه الطريقة تصب بشكل مباشر فى الوقاية من الفساد وتقليل تكلفته.
وإدارة المخاطر ليست هى إدارة الأزمة.. فالمخاطر فى حد ذاتها ليست أمرا سيئا، لأنها مهمة لتحقيق التقدم مثلما الفشل وسيلة للتعلم من الأخطاء.
والأهم هنا هو تعلم كيفية احداث التوازن بين الآثار السلبية الممكنة للمخاطر والآثار الايجابية المتضمنة فى الفرص التى تحملها.
والمخاطر هى أذى محتمل فى المستقبل يمكن أن يحدث بسبب سلوك حالى أو سياسة حالية.
وهذا الأذى تنجم عنه خسارة يمكن أن تترجم فى شكل خسارة مالية مباشرة أو خسارة المصداقية أو خسارة فرص استثمارية مستقبلية او خسارة الملكية وتصل إلى خسارة حياة الإنسان نفسها.
ومن ثم هناك أهمية للمعنيين بمكافحة الفساد والممارسين أن يحركوا بوصلة سياسات مكافحة الفساد فى اتجاه فكر إدارة المخاطر.. وإدارة المخاطر هى عملية وليست هدفا.. فهى تنطوى على خطوات التعرف وإدراك المخاطر وتعريفها بأنها مخاطر، وإزالة هذه المخاطر أو تحويلها الى فرص قبل أن ترتد لنا فى شكل مخاطر.. وأى عملية لإدارة المخاطر تنقسم إلى مرحلتين: المرحلة الأولى هى تقييم المخاطر والمرحلة الثانية هى السيطرة عليها.
ويشتمل تقييم مخاطر الفساد على التعرف على مخاطره والتسليم بأنه يأكل من فرص التنمية ويقوض تكافؤ الفرص وينتهك حق الإنسان فى حياة كريمة.
وتحليل هذه المخاطر يشتمل على سبيل المثال دراسة تأثير دفع الرشاوى والعمولات فى الانتقاص من دخل الفرد والحد من قدرته على الشراء والادخار، بالإضافة إلى جذب الاستثمارات التى ليس لها قيمة مضافة للاقتصاد القومى إنتاجا وتشغيلا لأننا لم نضع أولويات للمخاطر المحتملة للفساد، وهى حلقة مهمة فى التعرف على مخاطره.
وإذا كانت أنظار دول العالم تتجه نحو التنافس فى جذب الاستثمارات اليها، فلا يكفى فقط تهيئة مناخ جيد للاستثمار من قبل الحكومة ( أى التركيز على جانب العرض)، وانما تبرز الحاجة الملحة إلى تقييم الاستثمارات المتاحة ووضع أولويات لها بناء على خريطة المخاطر التى يأتى فى مقدمتها توافر المهارات البشرية والتدريب وإجراءات تأمين العمالة بالإضافة إلى المخاطر المرتبطة بنوع الإنتاج وحجمه وتسعيره وتوزيعه والعمليات المرتبطة به ونوعية التكنولوجيا المستخدمة فيه، واحتمالات نفاد ممارسات فاسدة إليه.. وهنا تتقاطع عوامل التكلفة والعائد من عمليات ومشاريع بعينها مع المخاطر المحتملة لها وآثارها على المجتمع والاقتصاد وامكانات التعامل معها أو رفضها.
وعليه، فإن قابلية أى سياسة أو قانون أو عملية انتاجية أو استثمار لحدوث مخاطر تتطلب تحليل احتمالية وجود مخاطر ودرجتها والآثار المترتبة عليها وتكلفتها وكيفية التعامل معها.
وسأورد مثلا يوضح أهمية تطبيق فكر إدارة المخاطر على الوقاية من الفساد والحد من آثاره السلبية على موضوع إدارة موارد الدولة التى تتداخل مع عدة قطاعات وعلى رأسها أراضى الدولة، حيث لاحظ المجتمع فى الآونة الأخيرة حجم المخالفات والتعديات على أراضى الدولة، وبصفة خاصة الاراضى الزراعية.. وهى نتيجة ليست وليدة اليوم ولكن وليدة سياسة أساسها نبيل تمثل فى تحقيق المساواة فى الملكية وإزالة الفجوات الطبقية متمثلة فى سياسة الإصلاح الزراعى بعد ثورة يوليو 1952.
ولكن جاءت خطوات تنفيذ هذه السياسة بعيدة عن فكر إدارة المخاطر، إذ أصبح من حق كل مالك لحيازة زراعية حرية التصرف فى أرضه بالزراعة أو البناء او البيع دون تخطيط واضح للسياسة الزراعية ولا للعائد أو التكلفة أو تحليل العلاقة بين حرية التصرف فى الملكية والعائد على الاقتصاد القومي، الأمر الذى أسفر عن اتخاذ كثير من الأفراد لخيارات أضرت بالاقتصاد الزراعى وبالكفاية الإنتاجية وتحقيق الأمن الغذائي، فتلاقى ارتفاع سعر الفدان الأسود (القابل للزراعة) مع ارتفاع تكلفة البناء لينتج منظومة سلوكية قوامها القبول والتسامح مع البناء على الأراضي الزراعية لتحقيق أرباح سريعة وخلق مناخ يضغط على الدولة لاستصدار سياسات تتلاءم مع الأمر الواقع على الارض والتعامل مع الأراضي التى تنتج لنا الغذاء باعتبارها أراضى مبان.
وهى سياسة وضعتنا فى قلب مخاطر استيراد غذائنا ورفع تكلفة إنتاجه إما لمحدودية الأراضي الزراعية أو لارتفاع تكلفة استصلاح الفدان فى الأراضي الصحراوية.
وكانت النتيجة أن انصرفت معظم جهود محاربة الفساد فى هذه الوقائع إلى مكافحته بدلا من تحديد وتحليل مخاطره بهدف الوقاية منه أو الحد من آثاره السلبية.