يعد معيار الرجل المعتاد أحد أعمدة القانون الجنائي والمدني، حيث يقاس سلوك الفرد ضده لتحديد درجة الإهمال أو الحرص، ونشأ هذا المعيار كأداة موضوعية لتقييم التوقعات المنطقية في التصرفات اليومية، مستمدا من العرف الاجتماعي الذي يعكس سلوك الشخص العادي ذي الذكاء المتوسط والانتباه الطبيعي، وفي عصرنا الحالي، الذي يغلب عليه تسارع الأحداث والتقلبات الاقتصادية، يبرز تساؤل جوهري: هل يظل هذا المعيار صالحا، ام يتطلب تطوير ليواكب الواقع الجديد؟
أصل المعيار وتطوره التاريخي:
يعود جذر معيار الرجل المعتاد الى الفقه القانوني الكلاسيكي، حيث اعتمده الفقهاء المصريون كمرجع لقياس الخطأ في الجرائم غير العمدية والمسؤولية المدنية، ويعرف هذا الرجل بانه الفرد الذي يتصرف بحرص معقول في الظروف المشابهة، دون ان يحمل بما يفوق قدراته الطبيعية، وعلى سبيل المثال، في حادث مروري، يسأل القاضي: هل كان الرجل المعتاد يتوقع الاصطدام ويتجنبه بتجاوز السرعة المعتادة؟ هذا النهج يضمن عدالة موضوعية، بعيدا عن الذاتية الفردية، مستلهما من مبادئ العرف الاجتماعي المتغير ببطء مع التطورات الثقافية.
وفي القانون المصري، أكدت محاكم النقض مرارا ان المعيار ليس ثابتا تماما، بل يتكيف مع الظروف المحيطة، مثل كثافة السكان أو طبيعة الطرق، ومع ذلك، بقي محافظا على جوهره كأداة لقياس التوقع المنطقي، مما جعله مرنا دون إفراط في التغيير.
التحديات المعاصرة: سرعة العصر والأزمات الاقتصادية:
اليوم، يواجه العالم واقعا مختلفا جذريا، تسارع الأحداث الرقمية يغرق الأفراد في تدفق معلوماتي لا يحصى، بينما تسبب التقلبات الاقتصادية ضغوطا نفسية مرهقة، كالتضخم المتسارع الذي يعطل الحياة اليومية، وفي مثل هذه الظروف، هل يظل الرجل المعتاد يمثل من يحرص بعادي، ام يحتاج الى تعريف يراعي الإرهاق المستمر؟
الحاجة إلى التطوير: اقتراحات عملية
نعم، يحتاج معيار الرجل المعتاد الى تطوير مرن يحفظ استقراره القضائي، ويمكن ذلك من خلال:
- التكيف مع العرف المتغير: إدخال براهين عن تأثير الأزمات الاقتصادية على السلوك اليومي، كانخفاض درجة العناية المطلوبة في العقود المتأثرة بالتضخم.
- التركيز على المخاطر الجديدة: في الجرائم غير العمدية، مثل الحوادث الناتجة عن استخدام التقنيات عالية السرعة، يقاس التوقع بما يقبله الفرد العادي في عالم الإدمان الرقمي.
- دور القضاء في التفسير: يبقى القاضي مسؤولا عن تحديث المعيار عبر القضايا، مع استخدام إحصاءات عن السلوك الاجتماعي لتجنب التعسف.
وهذا التطوير لا يغير جوهر المعيار، بل يعززه ليكون أداة حية ترفع من عدالة القضاء في زمن الأزمات.
في الختام، يظل معيار الرجل المعتاد ركيزة أساسية قوية في القانون، غير أنه يتطلب تطويراً مستمراً ليواكب التغيرات المتسارعة في الواقع الاجتماعي والتكنولوجي، مع الحرص الدائم على إعلاء مبدأي الموضوعية والعدل، وهذا التطوير هو الضمانة الحقيقية لأن يبقى التوقع المنطقي أداة فعالة وعادلة، قادرة على مواكبة التطور المتواصل دون فقدان جوهرها.
